إسرائيل تثبّت نفوذها بغطاء أميركي «سوريا الوظيفية» على طريق الولادة علي حيدر الجمعة 18 تموز 2025 التوهّم بأنّ الثناء ا
إسرائيل تثبّت نفوذها بغطاء أميركي: «سوريا الوظيفية» على طريق الولادة
علي حيدر
الجمعة 18 تموز 2025
التوهّم بأنّ الثناء الأميركي يترجم إلى حصانة ميدانية سقط بالضربات على دمشق (أ ف ب)
لم تكن الضربات الإسرائيلية التي استهدفت هيئة أركان الجيش السوري ومحيط قصر الرئاسة في دمشق، بعد دخول وحدات تابعة لسلطة الرئيس الانتقالي، أحمد الشرع، مدينة السويداء، كافية لإخفاء مؤشرات التحوّل العميق في العلاقة بين دمشق وتل أبيب؛ إذ إنّ السياقات السياسية والتقاطعات والاتصالات، فضلاً عن تموضعات سوريا الجديدة ومواقفها، هي، وحدها، التي ترسم مستقبل العلاقات بين الطرفين، وحدود أي متغيرات سياسية وميدانية.
والواقع أنه لا يمكن قراءة الأحداث الأخيرة على أنّها «متغير طارئ» في مسار تلك العلاقة، بل كجزء من تحوّلات أوسع شهدتها المقاربة الإسرائيلية تجاه سوريا، منذ سقوط النظام السابق؛ إذ اعتمدت إسرائيل سياسة متغيرة، تخضع لمنطق المصالح الأمنية والإستراتيجية، وتركّز، في جوهرها، على سلب الدولة السورية بالمجمل (أيّاً كانت هوية النظام الجديد) مقدراتها الإستراتيجية، كي تبقى إسرائيل اللاعب الأساسي في سوريا، وتقطع الطريق على أي تهديد محتمل على جبهتها الشمالية، يمكن أن ينشأ من أي متغيرات غير متوقّعة في المديَين المتوسط والبعيد.
وبحسب دراسة صادرة عن «معهد أبحاث الأمن القومي» في تل أبيب، فإنّ الإستراتيجية الإسرائيلية بعد سقوط النظام مرت بثلاث مراحل أساسية:
المرحلة الأولى: الهجوم والردع (2024 – آذار 2025)؛ تميّزت هذه المرحلة بسياسة هجومية مكثّفة، استهدفت البنية العسكرية السورية الناشئة بقيادة الشرع، توازياً مع تصدير خطاب إسرائيلي يركّز على خلفية الأخير «القاعدية والجهادية»، وضرورة التصدّي المبكر لأي تهديد محتمل من جانبه. وآنذاك، تدخّلت إسرائيل بفاعلية في الجنوب السوري، وذلك تحت غطاء «حماية الأقليات»، وعزّزت وجودها العسكري في مواقع حسّاسة كجبل الشيخ ومحيط العاصمة دمشق.
المرحلة الثانية: انتقال وتهدئة وتواصل (نيسان – أيار 2025)؛ شهدت تلك المدّة تراجعاً ملحوظاً في الضربات والتصريحات العدائية، وسط تصاعد الحديث عن اتصالات سرّية تجري بوساطة إماراتية. وبدا وقتها أنّ تل أبيب تعيد حساباتها، مدفوعة بعوامل داخلية سورية، وضغوط أميركية، ومصالح إقليمية متشابكة.
المرحلة الثالثة: التفاوض والانفتاح (حزيران – تموز 2025)؛ مع زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الرياض، بدأت تتكشّف ملامح تفاهم متقدّم بين إسرائيل وسوريا، لا سيّما عقب صدور تصريحات رسمية عن وجود حوار مباشر بين الجانبين، وتصاعد الحديث عن احتمال انضمام دمشق إلى «اتفاقيات أبراهام». كذلك، أعلن تساحي هنغبي، رئيس «مجلس الأمن القومي» الإسرائيلي، نهاية حزيران، أنّ الكيان يُجري حواراً مباشراً مع النظام السوري، مشيراً إلى أنه يدير «شخصياً» هذا الملف، في ظلّ احتمالات إقامة علاقات رسمية.
هكذا، وفي كلّ مرة، كانت التحوّلات الأميركية تشكّل حجر الزاوية في إعادة تموضع النظام السوري الجديد. فقد مثّل احتضان إدارة ترامب للشرع، ورفع العقوبات الاقتصادية عن نظامه، مؤشّراً على مرحلة جديدة في التموضع الجيوسياسي لسوريا الجديدة، خصوصاً في ما يتعلّق بالصراع مع العدو والموقف من الهيمنة الأميركية في المنطقة. كما مثّل رسالة واضحة بأنّ التعامل مع دمشق أصبح فرصة إستراتيجية أميركية، أكثر من كونه مصدر تهديد.
وجد الشرع نفسه مضطراً إلى التسليم بأنّ الجنوب السوري لم يَعد خاضعاً له
على أنّه مع انفجار معركة السويداء، في قلب الجنوب السوري، حيث تتقاطع الجغرافيا الحسّاسة مع الرمزية الاجتماعية والسياسية للطائفة الدرزية، تظهّر، بشكل أوضح، التحوّل البنيوي في ملامح سوريا الجديدة. إذ ما بدأ كحدث ناتج من خطأ في التقدير من الجانب السوري للهامش السياسي والعملياتي في داخل البلاد، سرعان ما تحول إلى علامة فارقة في ميزان القوى، تتقاطع فيها التحولات في العقيدة الإسرائيلية، وتبدّلات التموضع السوري، وأجزاء من الدينامية التي تهدف إلى صياغة معادلة سياسية – أمنية جديدة في المنطقة.
ولعلّ العامل الأهم في التطورات الأخيرة، غير مرتبط بعدد الغارات، ولا بهوية المستهدفين، بل بالرمزية الكامنة خلف الفعل الإسرائيلي، وتداعياته على الشرعية التي يسعى النظام الجديد للحصول عليها؛ إذ إنّ الشرع أقدم على دخول السويداء مدفوعاً بمنطق تثبيت السلطة على كامل التراب السوري، تحت شعار «استعادة السيادة»، إلا أنّ خطوته عكست فهماً قاصراً لمنطق النفوذ الحقيقي في الجنوب، الذي لم يَعد سورياً محضاً، بل صار خاضعاً لتوازن حسّاس بين إسرائيل والولايات المتحدة، ووسطاء إقليميين؛ أي أنّ الخطأ الجوهري للنظام الجديد، يكمن في الافتراض أنه يمكن بناء شرعية داخلية عبر الحسم الأمني، من دون الاكتراث لشبكة المصالح الدولية والإقليمية التي تنتسج خيوطها في الجنوب.
وهكذا، فإنّ التوهّم بأنّ الثناء الأميركي يترجم إلى حصانة ميدانية، سرعان ما سقط بضربة جوية على محيط القصر الرئاسي، ما جعل الشرع يدرك، وإن متأخّراً، أنّ إسرائيل لا تزال قادرة على تعديل قواعد اللعبة معه، رغم تموضعه تحت سقف المظلّة الأميركية. أمّا الدرس الأهم، بالنسبة إلى الرئيس الجديد، فهو أنّ الموقف الأميركي يبقى متماهياً مع نظيره الإسرائيلي، طالما أنّ الأخير لا ينافي بشكل حادّ مصالح واشنطن.
في المقابل، بالإمكان القول إنّ الردّ الإسرائيلي لم يكن مجرّد انتقام، بل بدا بمثابة تعبير عن تطور في العقيدة الإستراتيجية. إذ لم تَعد تل أبيب تكتفي بمقاربة «الردع»، بل انتقلت إلى دور «الفاعل الحاضر» في البيئة الإقليمية المباشرة، خصوصاً في العمق السوري، حيث تضرب من دون أثمان، وتظهّر نفسها كـ«قوة حماية» للدروز، في حين أنّ ما تقوم به مرتبط بفرض معادلات تتّصل بالجنوب السوري بمستقبل سوريا ككل. وبالنتيجة، فإنّ ما أراده العدو فعلياً هو التأكيد أنه يمتلك «حق الفيتو» على توسيع سيطرة النظام الجديد، الذي وجد نفسه مضطراً إلى التسليم بأنّ الجنوب لم يَعد خاضعاً له.
ولعلّ الرسائل النارية القادمة من تل أبيب، تكشف جانباً من شروط الاعتراف بشرعية الشرع، وأهمّها الإقرار بالدور الإسرائيلي في الجنوب وفي مجمل المعادلة السورية. وعلى هذا النحو، تولد «سوريا وظيفية» لا تشكّل تهديداً لا لإسرائيل ولا للولايات المتحدة، ولا تعيق تفاهمات التطبيع، وتكون جزءاً من المعسكر المعادي لمحور المقاومة، ومركز ثقل في إنتاج معادلات وموازين قوى لمصلحة المعسكر الأميركي - الإسرائيلي.
بمعنى آخر، فإنّ معركة السويداء لم تطرح اختباراً لقدرة الشرع على السيطرة فحسب، بل اختباراً لوظيفته السياسية في النظام الإقليمي الآخذ في التشكّل، وهو ما يفسّر عدم رغبة إسرائيل، فعلياً، في إسقاطه، وميلها إلى إعادة هندسة نظامه بما يتلاءم مع بيئتها الأمنية.
ان ما ينشر من اخبار ومقالات لا تعبر عن راي الموقع انما عن رأي كاتبها